شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

المراحل الدقيقة – أحمد ماهر

المراحل الدقيقة – أحمد ماهر
تمر كل الأمم والمجتمعات بمراحل دقيقة، ونقاط فاصلة، وحوادث ضخمة، قد تؤدّي إلى تغيير ما. ولكن، هناك اختلاف وتباين في النتائج بين تجربةٍ وأخرى، فأحياناً يكون هناك اختلاف في المعطيات، أو الظروف، أو ترتيب الحوادث قبل التجارب

تمر كل الأمم والمجتمعات بمراحل دقيقة، ونقاط فاصلة، وحوادث ضخمة، قد تؤدّي إلى تغيير ما. ولكن، هناك اختلاف وتباين في النتائج بين تجربةٍ وأخرى، فأحياناً يكون هناك اختلاف في المعطيات، أو الظروف، أو ترتيب الحوادث قبل التجارب، بين أمةٍ وأخرى، فهناك فوارق ضئيلة في المعطيات، قد تؤدي إلى اختلافاتٍ كبيرة من النتائج، بين كل تجربة وأخرى، وكل أمة وأخرى.

ولنقاط التحول الفارقة أشكال عديدة، فربما تكون كارثةً بيئيةً أو صحية، وربما تكون انتصاراً أو هزيمةً منكرة في إحدى الحروب، وربما تكون ثورةً كبرى سلمية، وربما غير سلمية، وربما تكون اكتشافاً علمياً كبيراً، أو التوصل إلى نظرية علمية أو فلسفيه جديدة، وربما تكون احتلالاً، وربما تكون نقطة التحول الفارقة هي التحرّر من الاحتلال.

وكما أن المعطيات والظروف، قبل نقطة التحول، تكون مؤثرةً في النتائج، هناك أيضاً أمر آخر مؤثر، وهو وضع وطبيعة وقدرات الأفراد والمؤسسات الراغبة أو القائمة بالتغيير، وكذلك وضع وطبيعة وقدرات الأفراد والمؤسسات المقاومة للتغيير، وكذلك ليس كل التجارب تؤدي إلى نتائج جيدة، أو لتقدم، فربما تؤدي مرحلة دقيقة إلى تقدم دولةٍ ما، وتؤدي المرحلة (أو الظروف) نفسها إلى تدهور وانهيار في دولة أخرى في الزمن نفسه، أو في الموقع الجغرافي نفسه.
وهذا يفسّر، إلى حد كبير، الفارق بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية، على الرغم من تعرّض كليهما لظروف وكوارث متشابهة في القرن الرابع عشر، لكن اختلاف المؤسسات وقتها أدى إلى تخلف أوروبا الشرقية عن عصور التنوير والنهضة في أوروبا الغربية، وأيضاً قد يفسّر التفاوت بين تجارب دول أوروبا الغربية، وكذلك قد يفسّر بعض ما يحدث في منطقتنا، حيث قد تؤدي ثورة إلى تحسين، بشكل ما، في إحدى الدول، وتؤدي ثورةٌ إلى عودة النظام القديم بشكل أشرس، في دولة أخرى، وقد تؤدي ثورةٌ إلى تفكّك دولة ثالثة بين طوائف متناحرة، منذ مئات السنين. 

فكثيراً تكون هناك عقبات هائلة وعوائق ضد التطور والتقدم، بعد المراحل الدقيقة والأحداث الكبرى، والتي عادةً تكون بسبب العلاقة الوثيقة المتشابكة والقائمة على المصالح المتبادلة بين المؤسسات السياسية والاقتصادية الاستحواذية الاحتكارية، فالمستفيد من استمرار الفساد والظلم والاستبداد والاحتكار يكونون، في أحيانٍ كثيرة، أكثر ثروة وتنظيماً ودهاءً من المطالبين بالإصلاح والتغيير والحرية.

ويقدم لنا كتاب “لماذا تفشل الأمم” تفسيراً جيداً حول الاختلاف والتفاوت الذي قد يحدث في نتائج تجارب متشابهة، قد تحدث لدولتين متقاربتين في الظروف والتاريخ والنطاق الجغرافي، فالمؤسسات السياسية والاقتصادية هي التي تشكّل التوازنات في السلطة، وتحدّد ما هو قابل للتنفيذ. ولذلك، ترتبط النتائج بالأحداث العارضة وتطورها، وكذلك يؤثر بشكل وطبيعة وتجانس المجموعات المعارضة في النجاح أو الفشل، فأي المجموعات التي ستقود، وأيّها قادرة على تشكيل تحالفات الآخرين واحتوائهم، وما طبيعة القادة الذين يستطيعون استغلال الأحداث لمطالبهم وأهدافهم، وتفويت الفرصة على السلطة أو النظام القائم.

ولذلك، تكون طبيعة المجموعة الفائزة محدّدة لما قد يحدث بعد المرحلة الدقيقة أو الفاصلة، فلا يجب افتراض أن المرحلة الدقيقة أو الثورة، على سبيل المثال، سوف تؤدي إلى سياساتٍ ناجحةٍ أو تغير إلى الأفضل، فهناك أمثلة عديدة لثوراتٍ أدت إلى ما هو أسوأ، أو قامت باستبدال الطاغية بطاغية آخر. ولدينا أمثلة أخرى في تجارب ما بعد الاستعمار، فقد قامت معظم الأنظمة الوطنية التي تولت السلطة، بعد رحيل الاستعمار، بتكرار وزيادة أسوأ ما كان في سابقيهم، وكان هناك احتكار واستحواذ للسلطة، تحت شعار محاربة الاستعمار أو التحرّر الوطني، أو حماية الثقافة، ما أدى إلى ما يحدث الآن في معظم دول إفريقيا والشرق الأوسط، وإن اختلفت الشعارات، وأصبحت محاربة للإرهاب أو محاربة المؤامرات الكونية.

ويتأثر تاريخ الأمم بالطبع بتاريخها المؤسسي، وبالتوازن بين المؤسسات وتوزيع السلطة. ولذلك، لا عجب، على سبيل المثال، أن تكون المؤسسات الفاشلة نفسها التي تحكم مصر الآن هي التي كانت تحكم مصر منذ 60 عاماً، وربما ستجد لوائح وأساليب إدارة لا تزال ساريةً، ولم يتم تحديثها منذ عهد محمد علي.
وأيضاً، لا عجب أن يكون حال مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي هو هذا الحال المتدهور والكارثي الذي لم يسبق له مثيل، فالمجموعة الفائزة أو الذين يسيطرون على السلطة السياسية والاقتصادية الآن (وهم من كانوا يسيطرون على السلطة قبل 25 يناير)، بالتأكيد، سيبذلون كل الجهد والخطط المحكمة في منع ظهور أي منافس، أو زيادة السلطات وتعزيزها، أو في سد كل الوسائل التي أدت إلى أن تستطيع بعض المجموعات أن تنظم نفسها، وتحرّك قطارا كبيرا من الجماهير، ولا عجب أن يتم هذا التشويه المنظم لكل من كان له دور في التخطيط والحشد لثورة 25 يناير، حتى يتم فقدان تلك القدرة مستقبلاً.

وأخيراً، لا أعتقد أن من المرثيات والبكائيات أن نتساءل كل فترة عن “ماذا لو؟”، ليس بهدف البكاء على اللبن المسكوب، ولكن بهدف أن تتذكّر “المجموعات المهزومة” أخطاءها، وتحاول التعلم منها. فتخيل ماذا لو كانت الفرق والمجموعات التي شاركت في “25 يناير” أكثر تجانساً وتنظيماً، أو كان هناك تطور أكثر وضوحاً وحسماً للنقاط الخلافية قبل “25 يناير”، والتي لم تحسم حتى اليوم.
ماذا لو كان هناك تأييد شعبي أكثر قوة لفكرة الثورة والتغيير؟ ماذا لو لم يكن هناك انتهازية لدى القوى الأكثر تنظيماً؟ وماذا لو كان هناك نضج وتحمل للمسؤولية لدى القوى الأقل تنظيما؟ وقبل ذلك، لماذا تغيرت النخبة الحاكمة، لكن زادت الممارسات الفاسدة نفسها بعد 1952، ولماذا لم يتوقف القمع والاعتقال بعد 1970، ولماذا استمر نظام حسني مبارك في الحكم بعد 11 فبراير 2011، إلى أن تمكّن مرة أخرى، وأصبح أكثر شراسة؟

أما إن حدثت نقطةٌ فاصلةٌ، ومرحلةٌ دقيقةٌ مرة أخرى، في يوم من الأيام في المستقبل المتوسط أو البعيد، هل سيتم تكرار الأخطاء نفسها، وتنهزم المجموعة المهزومة مرة أخرى؟ 



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023